ليلتان وليلى

ليلتان و ليلىبقلم : رفعت خالد المزوضي - المغربللتواصل : khalid.elmzoudi.iga@gmail.comهذا المنزل الجميل أصبح بين ليلة و ضحاها منزلها هي !"ظهر الآن ثقبٌ كبير وسط الباب ، وامتدّت يدٌ متلهّفة من خلال الثقب لتدير المقبض من الداخل إلا أنها وجدتالباب موصداً بالمفتاح ، ولا مفتاح بعين الباب ، فَعَلتزمجرةٌ غاضبة ، وواصل الفأس تكسير الخشب السميك.."-1-كانت صويحباتها يرقُصن حولها بعنف ويجذبنها بين الفينة والأخرى ، لتنتبه من غفلتها وتمرح وترقص كما يفعلن ، لكنها لم تزدد مع ذلك إلا سُهوماً ، وإن وزّعت الابتسامات يمنة ويسرة ، فإنها لم تتحرك من مكانها إلا قليلاً ، كأن الزينة التي عليها تثقل رأسها فلا تستطيع حراكاً ! لَم تدرِ لِمَ بدا لها كلّ شيء غريباً وقتها ، فجأة لم تعد تفهم ماذا أتى بهاإلى ذلك البيت المبهرج بالألوان ، والفُرش ، وقفاطين النساء المتلألئة ، والعطور الخانقة ، وأصوات الحليّ التي ترنّ كأنها شلاّل هادر من النقود المعدنية ، وأصوات الأواني وهي تُقرع في المطبخ المجاور ، من كؤوس وصحون وملاعق ، وأقدام الخادمات وهي تضرب البلاط جيئة وذهاباً ، يُحضرن ما يُحضرن ، ويحملن ما يحملن ؟.. ماذا يحدث ؟ وما كل هذه الفرحة ؟ بل متى كانت بهذه الأهمية الخطيرة - أصلاً- حتى يحتفلون بها هذا الاحتفال ؟ وأين كان مخفياً هذا الحب والتفاني من قبل ؟ثم تذكرت ، وسط الضوضاء الصوتية والبصرية ، كيف لم تكن "ترضى" كلما دُعيت إلى عُرس من أعراس الزواج.. كل ذلك الكمّ من الغرور والتفاخر باللّباس والشعور المسرّحة ، والحليّ الباهرة ، وأطايب الأكل الذي يطوفون به في مواكب ، كأنها المواكب الملكية ! لم تكن تَسلَم من الضّيق الذي يخنق أنفاسها ، والألم الذي يغصّ به قلبها في مثل تلك المناسبات ، وقتَ أن كانت في عداد العوانس البائرات - كما يصرّ على تسميتهن الناس - ولذلك كانت تجاهد نفسها جهاداً كبيراً حتى لا تحسد المتزوجة ، لِما علمت من خطورة الحسد على الحاسد والمحسود معاً .فهل تُصدّق الآن هذا الفرح البادي في العيون ؟ أوَتسامى الجميع عن الحسد فجأة ؟.. لا تصدق !- هيا قومي يا )ليلى( ، وكفاكِ خجلاً .. هذا عُرسك ، أنسيتِ ؟- شكراً حبيبتي.. أنا مرتاحة مكاني .- قلت لك قومي ..- ...وكذا كانت تجابه ذلك الإصرارَ المقيتَ من بعض النّسوة ، بإصرار حديدي مؤدّبٍ من جانبها ، على أن تلزم الكرسي لا تُغادره ..* * *ثم جاء وقت العشاء ، فهدأت النساء قليلاً وانقشعت الجُموع ، وعادت كل ذات حليّ إلى مكانها ، متبخترةً فيمشيها ، تهزّ يديها وتخفضهما حتى تُسمِع صوت حليّها كل من لم يسمع ، وتُري لآلاءها كل من لم يرَ ، حتى لقد يظنّ الرائي أنهنّ جميعاً عرائس ، إلا تلك النحيفة القابعة مكانها هنالك ، تحت برقع أبيض شفاف.. فهي المدعوة الوحيدة للعُرس فيما يبدو !كُنّ يلهثن من فرط "الفرح" ، ويثرثرن ، ويقهقهن ويتلّفتن بأعين كأعين الذئاب.. يحسبن عدد الوسائد ،ويُقيّمن جودة الستائر ، وسُمك البساط ، ومدى التناسق بين لون المناديل وطلاء الحائط ، ومعدّل ارتفاع الأرائك فوق مستوى البحر !.. إلخ .و في انتظار أطباق العشاء ، بعد الفراغ من خدمة غرفة الرجال ، تنامى الهمس المشبوه ، والضحكات المفاجئة التي تنفجر فجأة ، كأن صاحبتها تريد أن يبلغ صوتها غرفة الرجال ، حتى يعلم كلّ أعزب فيهامدى رقّتها وأنوثتها و"استعدادها" ! أما العروس فقد نالت النصيب الأوفر من سهام العيون التي تُحدّق فيها من أظافرها إلى قمّة التاج الصغير الذي يُرصّع رأسها ، ويالها من نظرات تلك النظرات !لقد كانت المسكينة تجد لكل نظرة منها مثل الوخز في جسدها ، كأنها أشواك التّين البريّ الدقيقة ، فتتململ مكانها منزعجة ، ولولا تحرّزها من ظنّ السّوءلترجمت كل تلكم النظرات إلى جُمل مُفيدة ، واضحة..- من تحسبُ نفسها هذه الأفعى حتى لا ترقص معنا ؟- إنها ليست طويلة بالقدر الذي وصفوها به ! هيهي!- يا لها من محظوظة بنتُ الذين.. !- عرائس آخر الزمن !.. تبّاً !- اللّهم بارك ..- كُلكنّ تنلن أزواجاً بالنهاية إلا أنا !.. حسنٌ ، ستأتيني أخباركِ فيما بعد.. فلتنتظري ، إني من المنتظرين !- ...وجاء الطّعام أخيراً ليقطع عليها سيل الخواطر ، وبدأ الالتهام والازدراد ما إن لمست الأطباق ظهور الموائد، وانتبهتْ )ليلى( - العروس - ممتعضةً إلى فرط الشراهة التي تأكل بها بعضهنّ ، حتى كأنهن لم يرين من قبلُ أكلاً يُؤكلُ ، وأخريات - على النقيض - يأكلن ببطءٍ وعجرفةٍ زائدة ، ويمسحن أفواههنَّ الملونةبحذر عقب كل لقمة ، كأنهن مجبرات على الأكل عن غير شهية ! ولم تذكر )ليلى( الذي أكلته تلك الليلة ، ولا كيف أكلته ، وأنّى لها الذّكرى ، وقد كانت في مرمى تلك العيون !* * *كان أغلب الذي سمعته عنه مُريحاً ومُبشّراً بالخير ، باستثناء بعض الروايات الغريبة ، التي منها أن)يوسف( هذا لا يخرج من مسكنه مُطلقاً ! ومنها أنه بلا أهلٍ ، ولم يسبق لأحدٍ أن عرف عن أسرته شيئاً يُذكر ! وكل ذلك لم تعدّه )ليلى( إلا محض تهويلات، وقدّرت أن بعض ما قيل إنما قيل عن حسد ! بيد أنالذي لم تستسغه في أمره - حين رأته أول ما رأته في بيت أهلها - هو عيناه اللتان لا ترمشان !* * *-2-انتهى العُرس ، وزال مع انتهائه ذاك الدّافع الذي يحملُ العروسين على تلبية رغبات العائلتين والمجتمع، وآن الأوان لتلبية رغباتهما الآن ..في اليوم التالي ، وفي منزله النائي الفسيح ، كان)يوسف( بمنامته الزرقاء الخفيفة التي تلفّ جسمه الممتلئ ، غارقاً في الأريكة الجلدية ، يُعدّل من عويناته بين الفَينة والأخرى ، ويُقلّب صفحات كتاب بين يديه بسرعة غريبة !أما )ليلى( ففي المطبخ كانت ، تطبخُ القهوة كما طلب منها زوجها ، متنقّلة بخفة جيئة وذهاباً ، وقد مال ثغرها بابتسامةٍ دافئةٍ فيها شيءٌ من خجل ، وهي تذكرُ أنها في منزل رجلٍ غريبٍ لأول مرة في حياتها ، ولا أحد من أهلها يُنكر عليها ذلك ! ثم سرعان ما تنفضُ رأسها لتزيل عنه الفكرة الحمقاء ، وتنشغل بحمل الأواني أو وضعها ، أو غسل بعضها تحت ماء الصنبور اللاّمع ، أو فتح ذاك الدّولاب أو غلقدرج من أدراج الخشب الأسود الثمين ، لتتوقف بغتة شاردة النظرات ، وقد عاودتها الفكرة إياها ، فتبتسم وتعضّ على شفتيها خجلاً وفرحة.. أوَ يكون هذا الذي في الصالون الآن رجلها ؟ حلالُ لها أن تكلّمه وتلاعبهوتداعبه ! عجباً .. وهذا المنزل الجميل ، أينقلب بين ليلة وضُحاها منزلها هي ؟ منزل )ليلى متوكّل( ؟.. عجباً ، عجباً !وقفت لحظة مكورة قبضتيها على جنبيها ، تتأمّل المطبخ الذي لم ترَ كل زواياه بعدُ.. فرأت ترتيباً فريداً ، كل آنيةٍ في محلّها ، وكلّ لونٍ مناسب للزاويةالتي هو فيها ، بل ربما كان مناسباً لمستوى النور الذي يصله من زجاج النافذة الواسعة المطلّة على الحديقة ، والتي ألقت بشعاع الشمس الذهبي على الموجودات ، بعد أن كسر الزجاج السميك حدّته ، وقصّت أغصان النباتات بالحديقة جوانبه ، فلم يصل إلى أرضية المطبخ وجدرانه إلا مزخرفاً ، يصف حدود الأغصان وشكل أوراقها ، وأجساد العصافير الصغيرة في حركتها وسكونها وتقافزها وغزلها ، وأغانيها المطربة التي تملأ الجو بلا انقطاع..- )ليلى( !ارتبكت عند سماع النداء ، فأفاقت من تأملاتها ، وأسرعت في وضع الفناجين والإبريق على الصينية النحاسية ، وعدّلت من كسوتها ومن خصلات شعرها بحركاتٍ متوترةٍ سريعة ، ثم سعلت برقةٍ لتعدّل صوتها كذلك ، وصاحت :- أنا قادمة..خرجت من المطبخ بخفة ، ومشت في الرواق الطويل الذي في جوانبه غرفٌ كثيرةٌ مغلقة ، عرفت بعضها وجهلت البعض .ثم لما خرجت من الرواق ، دارت على يمينها ليلوح لها البهو الشاسع ، والأرائك الملونة المتناثرة ، والثريا العملاقة وهي تتدلى من السّقف.. يجلسُ أسفلها مباشرة )يوسف( على أريكته ، يواصل القراءة بنهم عجيب..- إحم..إلتفت )يوسف( لدى سماعه الصوت كأنما أفاق من سُباتٍ ليرى )ليلى( ، وهي تحمل الصحفة بأدب ، مطأطئة الرأس، فابتسم لها ودعاها للجلوس..- لماذا كل هذا الخجل ؟ أنت في بيتك الآن يا)ليلى( تفضّلي..حوّلت بصرها مبتسمة في مزيد من الخجل ، وتردّد صدى صوته بأذنها طويلاً .. يا له من صوت رجوليٍّ عميق !- كيف وجدتِ المنزل الجديد ؟سألها ثم مدّ يده ليحمل حبات من الفواكه الجافة بصحن يتوسّط الفناجين ، وعيناه معلّقتان بوجهها..- جميل.. جميل جدا في الواقع .أجابت وهي تتظاهر بالانشغال بحمل فنجانها ، وتحريك الصينية فوق المائدة الزجاجية في غير ما داعٍ يدعو لذلك .- جيد.. لازال أمامك الكثير لترينه..ثم عاد لكتابه !* * *حاولت )ليلى( - طوال يومها الأول - التغافل عن ملاحظاتٍ جانبيةٍ بدت لها ، حتى لا تعكّر صفو حياتها الجديدة ، كقلة كلام )يوسف( ، وكثرة قراءته ، وإن كانت هي كذلك من مدمنات القراءة ، إلا أنها تختار أوقاتاً تراها مناسبة لتخلو بكتبها ورواياتها ، وذلك حتى لا تهمل جانباً من جوانب الحياة ، هكذا علّمها أبوها ، أستاذ اللغة العربية .ولكن )يوسف( ليس كمثلها في هذه الخصلة ، كما لاحظت في اليوم الأول من زواجهما على الأقل ، فهو يقرأ أثناء مجلسهما في الصالون ، يقرأ وهو يتناول طعام الغذاء ، بل كان يقرأ حتى في الفراشليلة أمس ! وهي لا تفتأ تصبّر نفسها ، وتنتظر في مثل الجمر كلمة منه تشجعها على الكلام.. ولكنهالصمت المطبق .)لعله خجول مثلك( ، هكذا أجابت أمها وهي تحاورها على الهاتف بصوت هامس.. )اصبري يا بنيتي ولا تطلقي أحكاماً منذ اليوم الأول ، اصبري وسترتفع الكلفة بينكما رويداً رويداً إن شاء الله.. ولا تنسي النصائح التي..( .- حسن أمي.. ها هو ذا قادم ، سأنهي الاتصال الآن ، وداعاً .ومما تغافلت عنه كذلك ، عيناه اللتان لا ترمشان ! فقدّرت أنه خطبٌ يُصيب العينين ، وأن لا بأس بذلك ، فمن ذا الذي يخلو من العيوب والغرائب على كل حال ؟ أليس ظفر إصبع رجلها الكبير معوجّ ، حتى لتخجل من المشي أمامه عارية القدمين ؟ صبراً إذا ، والله المستعان ، يكفيها وسامته ، وإن كانت وسامة"سمينة" بعض الشيء ، وشعره الأملس الفاحم ، وكتفيه العريضتين ، وصدره العامر ، وإن كان به قصر ، ولكندينه وأدبه ، وملاحته التي لا تخطئها عين تشفع لهبالتأكيد .جال بذهنها كل هذا وهي تغسل أواني الغذاء في المطبخ الفسيح الذي بدأت تحبه ، تُرى أين هو الآن ؟هل مازال يقرأ ؟ ربما يكون في غرفة المكتب ، وقد أخبرني أمس عند أول دخول لنا عن روتينه اليومي ، وكيف أنه يحب الاختلاء بنفسه بعد الغذاء في مكتبه الخاص.. ما هو عمله بالمناسبة ؟ أهو صحفي أم محام، أم كاتب ؟.. لا تذكر بالضبط ، فقد سمعت عنه روايات متنافرة ، غير أنه كتومٌ جداً ، يصعب أن تظفر منه بجوابٍ شافٍ ، ولكن صبراً .. سأحفظ عدد جواربه ذاتها مع الأيام !هنا دوّت الصرخة !صرخةٌ عرفت فيها صوته.. فانزلق كأسٌ من بين أصابعها المرتخية ، وتناثرت شظاياه فوق بلاط المطبخ !* * *-3-في غرفة المكتب الفسيح التي زيّنتها رفوفٌ ملأى بالكتبمن شتى الأحجام والألوان ، وزربية فارسية حمراء فاقع لونها قد بُسطت على أرضيتها ، ومزهريات ضخمة مزخرفة بزخارف لها لون الذهب قد وُزّعت بعناية ودقة على جنباتها ، وأريكةٌ طويلة من الجلد البنياستقرت بالموازاة مع الحائط الذي تملأه الرفوف ، حتى يجلس عليها من أراد القراءة .وخلف المكتب الأسود الفخم بنهاية الغرفة ، كان يبدوجذع )يوسف( الذي تهالك على كرسيه ، ممسكاً رأسه بأسى واضح ، وكان ظاهراً أنه ينتحب بصمت من اهتزاز منكبيه المستمر ، ويداه اللتان تجففان عينيهكل حين .تعالى طرقٌ خفيضٌ على الباب ، ولكن )يوسف( لم يُحرك من جلسته ، بل لم يبدُ أنه سمع شيئاً أصلاً، توقّفت الطرقات المستحيية ، لتعود بعد حين أقوى مما كانت ، فأوحت بتوجّس صاحبها وتنامي شكّه وخوفه ، فلما أن لم يُجدِ الطّرق شيئاً ، دار مقبض الباب الدائري المذهّب ببطء ، وانزاح الباب الأسود قليلاً ليظهر خلفه وجه )ليلى( وقد امتقع من الفزع..- )يوسف( ؟دخلت الغرفة وهي تمسك صدرها متوجّسة ، تنظر يمنة ثم يسرة ، حتى استقرّ بصرها على ضالّتها فشهقت..- )يوسف( ؟.. ما بك عزيزي ؟تقدّمت في الغرفة ، مركّزة نظرها على مشهد زوجها الذي يمسك رأسه في صمت ، وهي تلتفت من حينٍ لآخر لتفهم سبب صراخه ، وترمق - في نفس الآن - الغرفة الراقية التي تراها أول مرّة.. عجيب ! كل هذاالكمّ من الكُتب ! لابد أن أفاتحه في الموضوع لاحقاً ، سيُجنّ الرجل من كثرة القراءة !- )يوسف( ، هل تسمعني ؟مدّت كفها تهزّه بلهفة وقد تضاعف خوفها..- هه ؟ ماذا ؟.. ماذا تفعلين هنا ؟تفاجأت )ليلى( من "تفاجئه" .. وفي مشهد سريع لمحت صوراً مبعثرةً على المكتب ، قد كان غارقاً فيتأملها وهو يبكي ، فاستطاعت أن تلاحظ فيها خطوطاً عامة .. هناك رجل وامرأة في وضعياتٍ خادشةٍ للحياء .. وقبل أن تستطرد في استكشافها لتلك الصور ، انتبه )يوسف( لاتجاه نظرها ، فجمعها تحت ساعديه بحركة سريعة.. وصاح :- ألا تعرفين معنى الاستئذان ؟- لقد.. لقد طرقت الباب ، ولمّا لم تجبني..- أخرجي الآن.. أغربي عن وجهي !جاهدت )ليلى( لابتلاع الإهانة المفاجئة ، وهي تنسحب من وراء المكتب حيث كانت تقف بجانبه ، وتوجّهت للباب خافضة الرأس وقد ابتلّت عيناها ، وقبل أن تعبر الباب ، حاولت أن تلطّف الجو ما استطاعت :- لقد سمعتُ الصرخة ، ففزع قلبي وحسبت أن مكروهاًأصابك...وخرجت قبل أن تسمع جواباً .. وأغلقت الباب .* * *ما أقسى الحياة ! نظن دوماً أنّا سنصير يوماً إلى راحة ورغد في العيش يدوم ما دام لنا عمر ، ولكن ذلك لا يكون ، أم ثمة هناك سعداء ينالون هذا الرغد؟ لا أدري.. الله تعالى أعلم بكل شيء ، ولكن لمَ يصدّعون رؤوسنا بتلك الأمثلة الواثقة ، كقولهم)اعمل يا صغري لكبري( أو أي مثال معناه )من كافح في صغره ارتاح في كبره( ؟ هل يتخذوننا هزؤاً ؟ من ذا الذي يخترع هذه الأمثال ؟ آه لو أمسكته ، لأوسعنّهُ ضرباً بعصا المكنسة على أمّ رأسه !كانت )ليلى( غارقةً في خواطرها هذه ، وهي على سريرها ، تُسند ظهرها لخشبة السرير العريضة المزركشة ، وترمق صورة وجهها المتجهّم بالمرآة ..أهكذا يكون شهر العسل ؟ أم أن وجهها هذا ليس وجه عسل ؟ أم لعلّ صديقاتها كنّ يكذبن عليها كلما وصفن ليالي )ألف ليلة وليلة( تلك التي يقضينها مع أزواجهن ؟ثم تذكرت بسرعة سبب هذا التشبيه الذي خطر ببالها ، فقد كان )يوسف( يقرأ منذ الأمس في مجلد من مجلدات )ألف ليلة وليلة( بنهم جنوني.. وكأنه أنسبُ وقتٍ لهذا الهراء ، أفّ !حملت هاتفها الذكي من على المنضدة وقد ضاقت ذرعاً بخواطرها الكئيبة ، وعبثت للحظة بإصبعها النحيف فوق شاشته ، قبل أن تذهب لأيقونة )السمّاعة الخضراء( ، ففتحت التطبيق الشهير ، واختارت من اللائحة الطويلة صديقتها )ريم( التي تضع صورة رمزية لها وهي بكامل زينتها ، تضمّ فمها بخلاعة ، لتقبّل كل من يرى صورتها !مطّت )ليلى( شفتيها وحركت رأسها استياء من تهوّرصديقتها التي طالما نصحتها أن تتعقل ، إلا أن ظاهرةوجه )منقار البطة( هذه ، قد اجتاحت الكثير من فتيات العالم كالطاعون ، فصرن كالدمى التي لا عقل لها..- )ريم( ؟ أنت هنا ؟لم تخيّب )ريم( ظنها ، فهي )هنا( دائما وأبداً ، فسرعان ما ظهرت على الشاشة عبارة )ريم تكتب حالياً..( فانتظرت بملل أن تنهي كتابتها..ولما طالت "كتابة" )ريم( واستطالت ، أطلقت )ليلى( من بين شفتيها تعليقاً ساخراً بصوت خفيض مُنهك :)كأنك ستكتبين النشيد الوطني !(..- )ليلى(.. عروستي الجميلة ، كيف هو شهر عسلك ؟وأتبعت عبارتها بسطر من القلوب الحمراء ، والقطط والعرائس إلخ..- بخير حبيبتي.. ماذا عنك ؟- أنا أحاول المراجعة لامتحان "الباك" كما تعلمين.. سأجن يا أختي، لم أتوقع أن الأمر كارثي إلى هذا الحد !- صبراً سيمر كل شيء بسلام ، وتنجحين بإذن الله ،ونأكل في بيتك الحلوى ونشرب العصير وأذكرك بأيامالمراجعة هذه فتضحكين..- إن شاء الله يا حبيبة قلبي ونور عيني وحبي الكبير)قلوب(.. ولكن خبّريني ما أخبار العريس الوسيم ، هه ؟- ومالك وماله ؟ إياك أن تزيدي خطوة واحدة.. إن كُنتِساعدتِ في لمّ شملنا مشكورة ، فلا يعني هذا أن تتقاسميه معي..- هاهاها.. كم أنت مسمومة ، ما أردت إلا السؤال يا أختي .هنا انفتح باب الغرفة بهدوء، ودلف )يوسف( بوجهٍباسم ، غريب..تجاهلت )ليلى( الهاتف رغماً عنها فسقط على الفراش المبعثر ، وظلّ وجهها معلّقاً بوجه رجلها ، تتأمل ابتسامته التي أزالت عنها طبقات متراكمة من الهم والشك ، فشعرت بصدرها المكلوم ينشرح بعض الانشراح ، وبجسمها يخفّ بعض الخفّة حتى كادت تقفز من السرير وتصيح بسرور ، لولا أن تمالكت نفسها وتظاهرت بالرزانة والهدوء ..تعالى - فجأة - صوت رسائل )ريم( غير المقروءة ، فقطع الصمت الذي ساد للحظات ، وانتبهت )ليلى( بانزعاج لهاتفها ، فطفقت تحاول إسكاته..- من تكلمين ؟قالها )يوسف( بهدوءٍ وهو محافظ على ابتسامته العميقة ، ثم جلس بمحاذاتها على السرير ، فارتبكتودفعت إليه الهاتف بسرعة ليعاينه ، كأنما تدفع عن نفسها كل ريبة..- هه !.. مجرد صديقة من صديقاتي ، تسأل عن حالي..أمسك الهاتف يتفحّصه بفضول ، ويقرأ الرسائل المكتوبة بشفتين قاسيتين ، وعيناه اللتان لا ترمشان تبرقان على وهج الشاشة ببريق مريب ضاعف من شكها وخوفها وحيرتها ، هي التي توقعت أن يرفض الاطلاع على الرسائل إحساناً للظن بها ، ولكنها حاولت تجاهل هذا التصرف المفاجئ بأن قالت ، متظاهرة بالهدوء :- كيف أنت الآن ؟ هل هدأت ؟- نعم أنا بخير حال.. إنما أردتُ الاعتذار عمّا بدر مني من انفعال قبل قليل..وكانت هذه الكلمات كافية لتنسى كل شيءٍ كان منذ ليلة العرس ، فابتسمت ابتسامةً عريضةً صادقة ، ورنت إليه بإعجاب لحظة قبل أن تخفض عينيها خجلاً وهي تقول :- لم تفعل إلا الخير يا.. سي )يوسف( !* * *على ضوء شاشة هاتفٍ نقال ، ترمي رجلان - انتعلتا خفين قطنيين - خطواتٌ حذرةٌ بالبهو الطويل المظلم ، ثم تعبران الصالة الفسيحة ، وتمرقان بين أثاثها الضخم الذي يتراءى في الإضاءة الخافتة كأنه رجال من الجن وقفوا بصمت يحرسون المكان .لقد تأخر )يوسف( عن الفراش حتى امتلأ قلب)ليلى( فرقاً وخوفاً عليه ، فرأت أن تقوم لتنظر ماذا أخره ، والساعة قد جاوزت الرابعة .وقفت أمام باب غرفة مكتبه ، هل تدخل ؟ تخشى أن يكون مستغرقاً في عمله أو قراءته فينفجر في وجهها غضباً كما فعل هذا المساء ، ولكن لا خيار ثمة أمامها غير الدخول .كان الظلام يعمّ كل شيءٍ بالغرفة ، إلا بقعةً تشعُّ بضوءٍ أزرقٍ فيروزي ناحية المكتب ، رجّحت أنها من جرّاء ضوء الحاسوب ، فتقدمت بحذرٍ وهي تتلفت حولها بخوف ضاعف من برودة أطرافها ، حتى أنها لم تجد القدرة لتناديه باسمه.. ذلك الخوف من الظلام الذي لم يفارقها منذ أيام الصبى .اقتربت من المكتب ووجدت عنده )يوسف( ، حاطاً رأسهعلى ساعديه ، يغطّ في نوم طويل .لحظت وجهه الممتلئ الغافي على ضوء الشاشة الأزرق، وبجانبه على سطح المكتب الزجاجي كانت علبة دواءٍ مقلوبة ، حملتها وسلطت عليها ضوء الهاتف فقرأت ما يشير لحبوب منومة.. إذاً فهو يعاني من الأرق ،المسكين ، لعلّ هذا سبب إصابة عينيه اللتين لا ترمشان..هل أوقظه لأذهب به للفراش ؟ لعله يغضب إن فعلت.. ولكن ماذا كان يصنع في الحاسوب على كلحال ؟تحوّلت قبالة الحاسوب الأنيق بحذر ، ودققت النظر ملياً في شاشته ، إنها صفحة بريده الإلكتروني.. لعلها شؤونٌ تخصّ عمله الذي لا تعرف عنه شيئاً بعد ، ولكنها فضولية كأي امرأة في الدنيا ، ثم هي زوجته ويهمها أن تعرف عنه أكثر ، شجعتها هذه الفكرة فمدّت إصبعاً نحيفاً فوق رأسه الغافي ، وضغطت بكامل الحذر على رابط )الرسائل المرسلة( ، ثم اختارت أول رسالة في القائمة .. رسالةٌ إلى صديقٍ فيما يبدو ، مختصرةٌ وخطها صغير ، لم تفلح في قراءته من مكانها ، فاشرأبّت بعنقها قليلاً إلى الأمام ، وبدأت تقرأ بلا صوت وهي تضيّق عينيها :"... أعلم ُ، وأنا على اتفاقنا الذي اتفقنا عليه.. إلا أنّي أريد أن أمضي معها يوم غد على الأقل ! هذه لم أر مثلها من قبل.. سأتناول حبوب النوم حتى أنهي الليلةبسلام" !* * *-4-" أريد أن أمضي معها يوم غد على الأقل !"لم تتوقف هذه العبارة عن التردد بذهن )ليلى( طوال اليوم التالي ، وقد قررت أن ترجع لبيتها حتى يتضح ما كان خفياً ، ولكن فضولاً هائلاً أقعدها في فراشها منذ عودتها من غرفة المكتب وحتى طلعت الشمس ، تفكر كيف تسبر أغوار هذا اللغز الجديد ، بكت كثيراً ومسحت عينيها في كل مرة لتزيل عنهما الغمامة وتواصل التفكير العبثي ، كأنها سيارة تشق طريقها وسط الأمطار الهاطلة ، فتمسح مسّاحاتها الزجاج الأمامي كل حين حتى يتراءى أمامها الطريق مجدداً ، وهكذا كانت تمضي في طريق من الفكر لا نهاية له ، حتى توقفت فجأة على صوت الباب يُفتح..- صباح الخير..تبّاً لابتسامته المؤدبة..- صباح الخير..- هل استيقظت منذ مدة ؟- نعم.. أعني، منذ قليل..- تعالي إذاً فالإفطار جاهز.. كان عندي عمل عاجل بالليل لذلك نمت في مكتبي..- آه..- تعالي.. أنا أنتظرك .تباً لك.. قالتها وقامت على مضض ، لتضع رجليها الصغيرتين في الخف القطني ، مرّت جوار المرآة الكبيرة وتأمّلت وجهها الشاحب وعينيها الخاملتين ، ثمخرجت.تناولت الإفطار بصمت ، متظاهرةً بتتبع ما يُعرض علىالتلفاز بتركيز.. كانت يده اليمنى ترتعش وهو يحمل حبات الزيتون السوداء ، استطاعت ملاحظة ذلك من خلال نظراتها الجانبية الخاطفة .- مالكِ صامتة ؟- هه ؟ لا شيء.. فقط لم يكن نومي البارحة مريحاً ، لذلك تجدني متوترة قليلاً ..- سوف تعتادين المكان الجديد..- نعم..- هل تعجبك برامج الحيوانات، أراكِ مركزة ؟- نعم كثيراً ..- أوه !-...- حسن، أتمنى لك فرجةً ممتعة ، سأنصرف لإنجاز بعض المهام..- ما عملك ؟فاجأه السؤال المباغت ، فتوقف ونظر لها مبتسماً برهة من الوقت ثم قال:- سأخبرك لاحقاً !..* * *ترددت كثيرا في إخبار أمها ، أو أي أحد آخر.. أختها ، صديقتها )ريم( ، وفضّلت على ذلك الكتمان حتى تستبين الأمر .وقد ظلت طوال اليوم في غرفة النوم تحزم حقائبها ، وتعيد في ذهنها الحوار المرتقب معه عشرات المرات، ولما ضاق صدرها بما رحُب حملت الهاتف ، وقصدت إلى صديقتها )ريم( تكاشفها السر .كتبت )ريم( معقبة بعد أن حكت لها )ليلى( كل شيء:- أحقا ذلك ؟- نعم ، أقول لك رأيته بأم عيني.- وا مصيبتاه..- بل وا مصيبتاه أنا..- لعلك أسأت الفهم يا )ليلى(..- إشرحي لي إذاً ، فعقلي عاجزٌ تماماً..- ماذا أقول لك ؟ اصبري حتى تفاتحيه بالموضوع على الأقل.- أين هو أصلاً ؟ هل سمعت من قبل بشهر عسل كهذا ؟ هل هذا هو الزواج الذي صدّعت به رأسي ؟- صبراً .. ربما هو أيضاً لا علم له بشؤون الزواج ، وسيتعلم مع كرور الأيام..- لن تكون هناك أيام أخرى معه ، من يقول ذلك القول في أول يوم ، ماذا عساه يقول بعد سنة ؟-...- أينك ؟- مكاني.. أفكر في مشكلك..- فكري يا أختي ، سأعود بعد قليل ، انتظريني..- حسن .* * *- )ريم(.. هل أنت هنا ؟ إن الأمر عاجل !- نعم يا )ليلى( ، ما ذاك ؟؟- أنا في ورطة يا أختي .. الرجل قد جُنّ..- يا نهار أزرق !- ذهبتُ للمطبخ لأشرب ، فوجدته حاملاً سكيناً طويلاً ،يمشي جيئة وذهاباً في الصالون ويقول كلاماً مبهما لم أتبينه.. لم يرني ، فهربتُ راجعة للبيت ، وأغلقتُ الباب بالمفتاح..- سكّين ؟ ! أين أنت الآن بالضبط ؟- بيت النوم يا )ريم( ، أكتب لك من مكاني بالسرير..- اتصلي بأحد أفراد عائلتك..- لحظة..ركّبت )ليلى( رقماً بسرعة ، ثم وضعت الهاتف على أذنها ، وانتظرت قليلاً .. لكن بلا جدوى..- لا جدوى.. ليست هناك شبكة .- كيف ؟ وكيف تحدثينني إذاً ؟- لا أدري.. هناك شبكة )ويفي( فيما يبدو ، وهي غير مرتبطة بخط الهاتف.. لا أدري !-...-...- ماذا أفعل يا )ريم( ؟-...- )ريم( ؟ أنا أسمعه الآن يحاول فتح الباب بقوة..)ريم( ؟- نعم ؟- نعم ؟ أنا أوشك على الموت يا )ريم(.. أطلبي النجدة.-...-)ريم( ؟- هل لازال هناك ؟- لا، توقف.. ربما ذهب ليحضر شيئاً يكسر به الباب .-...- مالك يا )ريم( تسكتين ؟ أطلبي النجدة ، أنا في خطر ! ها هو قد عاد.. يا مصيبتاه ! إنه يضرب الباب بفأس.. يثقب الباب !-...- ريييم ؟- حسنٌ ، مادام الأمر وصل هذا الحد فلتسمعيني جيداً ، أمّا الصور التي وجدتِ فهي تخصّ زوجة )يوسف( الأولى التي ضبطها تخونه مع صديقٍ له ، وقد صورهما قبل قتلهما ، ثم مرض نفسانياً بعدها حتى أصيب بالأرق ، فلا ينام إلا ليالٍ قليلةً في الأسبوع ، حتى أن عينيه لم تعودا ترمشان..- ماذا ؟ كيف.. ؟- كيف عرفت ؟ حسن.. سمّني شهرزاد إن شئتِ ، أناخامس زوجة من زوجاته اللاتي تزوجهن لينتقم من خلالهن من جنس النساء جميعاً كما فعل شهريار ، وجثثهن موجودة في مبردات كبيرة بالغرف المغلقة..ظهر الآن ثقبٌ كبير وسط الباب ، وامتدّت يدٌ متلهّفة من خلال الثقب لتدير المقبض من الداخل إلا أنها وجدتالباب موصداً بالمفتاح ، ولا مفتاح بعين الباب ، فَعَلتزمجرةٌ غاضبة ، وواصل الفأس تكسير الخشب السميك ،وانطلق صراخ )ليلى( الحاد..- أنا شهرزاد يا )ليلى( ، وحيلتي في النجاة أني واعدته بجلب العذارى والتستّر عنه ووضعت حياتي رهنذلك ، وأنا التي كان يراسل بالبريد ليلة أمس.. آسفة، لكني اتخذت قراري يا صديقتي..وانفتح الباب !انتهىرفعت خالد المزوضي31 01 2017ملاحظة : القصة منشورة سابقاً في مدونة للكاتب

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة