قصة طفلي وولبت الاخضر

لغز طفلي وولبت الخضربقلم : مصطفى سيد مصطفى - مصرللتواصل : https://www.facebook.com/mostafa.ahlawy.22قصة حيرت المؤرخين والباحثين لقرون عديدةمن منا لم يشاهد فيلم الكارتون )طرزان( , ذلك الطفل الذي غرقت مركب والديه في احدى انهار افريقيا فتمكن والداه من النجاة مع رضيعهم ليلقيا حتفهم لاحقا على يد الفهد المرقط )سابور( , لكن الغوريلا )كالا( تمكنت من انقاذ الرضيع و قامت بإطعامه , وكبر الطفل وهو يظن أن الغوريلا والدته وأن القرود أقاربه .. و هكذا ظهر إلى الوجود )الرجل القرد( الذي اكتشفت وجوده بعثة استكشافية زارت أفريقيا لدراسة سلوك القرود , و تعجب أفراد البعثة كثيرا لهذا الإنسان الذي استطاع البقاء على قيد الحياةفي الغابة المليئة بالوحوش .. الخ من القصة التي أظن بأنها معروفة للجميع ... و لعل موضوعنا لهذا اليوم يشبه في بعض جوانبه و وجوهه قصة طرزان رجل الغابة .. ومن أجل أن نتعرف على الموضوع بالتفصيل دعونا نمتطي آلة الزمن ونعود إلى انجلترا  العصور الوسطي .. تحديدا إلى عهد الملك ستيفن)1135-1154( .. ذلك العهد المليء بالقلاقل والاضطرابات ..لكن أين نحن الآن ؟ .. أين هي لندن ؟ .. لماذا نقف هنا وسط المزارع والحقول والفلاحين ! ..وولبت .. بلدة صغيرة في جنوب انجلتراآسف نسيت أن اخبركم بأن قصتنا حصلت في قرية صغيرة تدعى وولبت "Woolpit" تقع بمقاطعة سوفولك Suffolk .. ونحن نقف الآن في أحد حقولها الخضراء .. أنه موسم الصيف , وقد حان وقت الحصاد ..بعض القرويين كانوا يجلسون للإستراحة في الحقل , وفجأة لمحوا طفلين )ولد و بنت( غريبين يقفان بجانب احدى الحفر المستعملة لاصطياد الذئاب , جديربالذكر أن القرية كانت معروفة بإصطياد الذئاب ومنها جاء أسمها أيام الانجلو- ساكسون )wulf-pytt( وبمرور الزمن تم اختصار الأسم إلى وولبت ..القرويون هرعوا إلى الطفلين وأمسكوهم و أخذوهم فورا إلى منزل )ريتشارد دي كالني( أحد كبار مالكي الأراضي بالقرية .كان هيئة الطفلين غريبة وتثير الدهشة , فلون جلدهماأخضر داكن و ثيابهما غريبة وغير مألوفة و هما يتحدثان بلغة غير مفهومة . وكانا يبكيان باستمرار .كانت هيئة الطفلان غريبة وتثير الدهشةالسيد )ريتشارد( ظن لوهلة بأن الطفلين مصبوغان بلون أخضر فأمسك بيد الفتاة ودعكها جيداً لكن لم يتغير لونها ..في هذه الأثناء كان العشرات من أهالي القرية قد احتشدوا حول نوافذ منزل السيد )ريتشارد( من أجل رؤية الطفلين الأخضرين .و بعد حين وُضِع الطعام أمام الطفلين , فنظرا إلى الخبز و الفاكهة باندهاش كأنهما لم يرى طعاما من قبل , و لم يأكلا شيئاً .خلال مكوثهم في منزله قام السيد ريتشارد بدراسة ملامح الطفلان فوجدها طبيعية لكنها تميل للملامح الأفريقية , وكانت العيون غائرة و لوزية الشكل .خلال خمسة أيام لم يتناول الطفلان إلا الماء الأمر الذي أصابهم بالضعف و الهزال الشديد و لم ينجح السيد ريتشارد في الوصول الى نوع الطعام المقبول لديهم . و ذات يوم جاء القرويون ببعض الفاصولياء الخضراء , وما أن رأى الطفلان النبات حتى اندفعا نحوه فأكلاه في نهم , و منذ ذلك الوقت لم يأكلا أي طعام اخر سوى الفاصولياء! ..ويبدو أن فترة الصيام قد أضرت بصحة الصبي . فبرغم إقباله على أكل الفاصولياء إلا انه أخذ يضعف حتى مات بعد شهر و تم دفنه في مقبرة القرية . أما الفتاة فواصلت نموها وأصبحت تعمل خادمة في منزل السيد ريتشارد , وقد تعودت بمرور الوقت أن تأكل من بقية صنوف الطعام فزال عنها لونها الأخضر , كما أنها تعلمت بالتدريج أساسيات اللغة الإنجليزية  , وحين أصبح بمقدورها الكلام سألها السيدريتشارد عن موطنها الأصلي فأثارت إجابتها تعجبه  ..إذ قالت بأنها جاءت من أرض لا تشرق عليها الشمس )ربما هذا هو سبب لون الجلد الأخضر( , وأن أرضهم مضاءة بنور الغسق الدائم وكل شيء فيها أخضر اللون , وأن هناك على مد نظرهم بلد أو أرض أخرى مضاءة بنور دائم وهي تقع إلى جوار بلدهم أو أرضهم لكن يفصل بين الأرضان نهر عريض.جاءوا من ارض لا تشرق عليها الشمس .. كل ما فيها اخضروبسؤالها عن كيفية وصولها وشقيقها إلى القرية الإنجليزية  قالت : "كنا نرعى حيوانات أبي عندما سمعنا فجأة ضوضاء عظيمة أشبه بقرع الأجراس , فوقفنا نستمع إليها ببهجة , وفجأة وجدنا أنفسنا فيقريتكم هذه فانزعجنا من نور الشمس وضجيج القرويون قبل أن يمسكوا بنا ويأخذونا لمنزل السيد ريتشارد" ..كان هذا ما ذكرته الفتاة أو ربما كل ما تعرفه . وقد عاشت في منزل السيد ريتشارد حتى بلغت سن الشباب , وكانت مميزة بتصرفاتها التي تتسم بالبدائية والفجاجة , لكنها من حيث الشكل لم تكن تختلف عن غيرها من النساء , وقيل بأنها تزوجت لاحقا ثم ضاعت وانقطعت أخبارها . وقيل أيضا بأنها ماتت بعد زواجها بفترة قصيرة ودفنت بجوار أخيها.حقيقة أم أسطورة من العصور الوسطى ؟في نسخة اخرى من القصة قالت الطفلة انهما دخلا كهفاقد يتساءل القارئ عن مصدر هذه القصة )وهذا حقه( , فأقول أن هذه القصة وردت في كتاب باللغة اللاتينيةعنوانه - تاريخ الشؤون الانجليزية )History of English Affairs( - لمؤلفه وليام أوف نيوبورج)1136-1198(، وهو راهب ومؤرخ انجليزي, وقد ذكر بوضوح في كتابه بأنه سرد القصة نقلا عن العديد من الشهود الموثوقين . أما المصدر الثاني فهوأيضا باللغة اللاتينية - كانت لغة الكتابة السائدة في انجلترا آنذاك - وأسمه تأريخ انجلترا )Chronicon Anglicanum(   لرالف كوجشيل )توفي 1228( الذي كان راهبا أيضا .طبعا لا يوجد اختلاف كبير في رواية المصدرين للقصة , فكلاهما معاصر للوقت الذي حصلت فيه , لكن رالف كوجشيل زعم بأنه سمعها مباشرة من السيد ريتشارد وبعض أفراد عائلته . كما أن روايته لكيفية وصول الطفلين لإنجلترا تختلف قليلا , إذ قالبأن الطفلين كانا يرعيان حيوانات والدهما عندما سمعا قرع اجراس مصدره كهف , وأنهما دخلا الكهف فضاعا لفترة قبل أن يخرجا من جانبه الآخر ليجدا نفسيهما وسط الريف الانجليزي الخ .." .التفسيرات المحتملةقصص الاطفال الضائعين ليست نادرة .. اشهرها قصة هانزل وغريتلهناك تفسيرات عدة , منها أن القصة برمتها لا تعدو عن كونها إحدى قصص الفلكلور الشعبي التي يمتزج فيها الخيال مع الحقيقة , وغالبا ما يطغى فيها الخيال على الحقيقة , ربما هي نتاج المبالغات التي دأب الناس دوما على مزجها مع بعض الحقائق ,خصوصا في العصور القديمة . والأساطير الشعبية تغص بقصص الأطفال الضائعين الذين يعثر عليهم في الغابات والحقول . ولا أدري لماذا علينا أن نصدقبأن ما قالته الفتاة هي الحقيقة بعين ذاتها , فهي تكلمت بعد مرور سنوات على وجودها في منزل السيد ريتشارد وكان لديها متسع من الوقت لتفكر فيحكاية تثير بها دهشة الجميع وتنال اهتمامهم .هناك احتمال ثاني , وهو أن القصة واقعية فعلا , وأنالطفلان هما في الحقيقة من أبناء المهاجرين الفلامنج)شعب جيرماني( الذين قطنوا إنجلترا وقتل معظمهم في الحروب التي عصفت بتلك الحقبة المضطربة , ربما كان والدي الطفلين من ضمن القتلى , وبعد مقتل والداهما فرا إلى القرية الانجليزية , وطبعا كانا يتكلمان اللغة الفلامنجية فلم يستطع القرويين معرفةما يقولانه . ولعل ما يرجح هذا الرأي هو أن وليام أوف نيوبورج ذكر في سرده للقصة أن الفتاة قالت أن سكان البلد الذي أتت منه هي وشقيقها يعتنقون الديانة المسيحية ولديهم كنائس, أي أنهم على الأرجحكانوا من سكان أوروبا. أما بالنسبة للون الأخضر فيمكن أن يكون سببه نوع من فقر الدم )Green Sickness( الذي يتسبب في ظهور بقع خضراء على الجلد والتي تزول بزوال المرض , أحيانا عن طريق تعديل النظام الغذائي , وهو بالضبط ما حدث مع الفتاة حيث زال لونها الأخضر بعد أن تغير نظامها الغذائي . هذا التفسير يبدو منطقيا جدا , لكنه عيبه الرئيسي هو أنه يفترض بأن لا أحد بالقرية يعرف شيئا عن الفلامنج واللغة الفلامنجية وهو أمر مستبعد خصوصا وأن السيد ريتشادر الذي كفلالطفلان في منزله كان شخصا متعلما .تلون الجلد يمكن ان يكون بسبب حالة مرضيةهناك تفسيرات أخرى بأن الطفلين ربما يكونان مجردخدم أو أبناء خدم هربوا من سيدهم الإقطاعي , ربما منقرية أو بلدة مجاورة لقرية وولبت , وهذا الأمر ليسمستبعد و وارد الحدوث .وهناك أيضا تفسيرات تعتمد على أمور ماورائية مثلأن الطفلان قادمان من كوكب أخرى , أو أنهما من سكان جوف الأرض , أي المعتقد القديم بوجود عالم آخر مسكون تحت الأرض التي نعيش عليها .الإرث الثقافي للقصةكانت قصة الطفلين الأخضرين مصدر إلهام للعديد من كتاب الأعمال الأدبية مثل :- الشاعر و الناقد الانجليزي هيربرت ريد كتب روايته الوحيدة )The green child(  وقد اقتبسها من قصتنا الأصلية.- يضم كتاب غرائب الأقدار للكاتب جون ماكلين المكتوب  1965 تقريرًا عن طفلين ذوي بشرة خضراء وصلا إلى القرية الإسبانية بانجوز في عام 1887. وتتشابه تفاصيل هذه القصة كثيرًا مما ورد في تقرير طفلي وولبت, وقد ساعد عمدة بلدة بانجوز الطفلين بالضبط كما فعل ريتشارد دي كالني.- لم يخل ذكر القصة في المصادر العربية فقد وردت في كتاب )30 ظاهرة خارقة حيرت العلماء( للكاتب المصري)راجي عنايت( لكنه ذكر ان الطفلان ظهرا في اسبانيا و ليس في انجلترا.شعار قرية وولبت- على الرغم من أن القصة المزعومة تعود للعصور الوسطى إلا أنها ما زالت حاضرة بقوة في الفولكلور الإنجليزي , فشعار قرية وولبت يصور لنا الطفلين مما يدل على أن أهل القرية يصدقون هذه القصة. وهناك أيضا لوحات للعديد من الرسامين تصور لنا الطفلين في الغابة أو القرية.خاتمةكما اعتدنا في موقعنا المفضل )كابوس( ألا ينحاز الكاتب لرأي أو تفسير معين و يترك حرية القرار و الإختيار للقارئ , وهنا أنا ذا أتوجه بالسؤال للقارئ الكريم : " ما تفسيرك وتحليلك للقصة ؟ هل تصدق حدوثها أم هي مجرد أسطورة أخرى من أساطير العصورالوسطى ؟ " .

تعليقات

المشاركات الشائعة